الحمد لله الواحد القهار، مُدبّر
الأمور مصرف الأحوال، رب المشارق والمغارب العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الناس
كافة بالهدى والرحمة والأنوار، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد،
وعلى آله وصحبه الأخيار.
أما بعد:
عــــامٌ جديـــد
أيها
المسلمون :اتقوا الله وتحلوا بالعبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى،
واعلموا أنكم قد استقبلتم عامًا جديدًا وشهرًا مفضلاً عظيمًا، وقد افتتحت
لأعمالكم سنة جديدة تحصى عليكم فيها أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر،
فلتكن أعمالكم في عامكم الجديد مفتتحة بالتقوى والصلاح، ثم الندم والتوبة
على زمن انصرم وانقضى في غير طاعة الله ولم نفز فيه بالرضوان.
أيها
المسلمون: ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فخذوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا
جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من
الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، قبلَ أن يناديَ بكم منادي الشتات
ويفجَأكم هادم اللّذات .
ضيــفٌ كريــــم
أظلنا
شهرٌ عظيم مبارك هو شهر الله المحرم أول شهور السنة الهجرية ،وأحد الأشهر
الحرم التي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.... ) الآية [سورة التوبة].
وعن ابن
عباس ب في قوله تعالى: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) اختص من
ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل
الصالح والأجر أعظم.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ
وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ
»[رواه البخاري].
وكانوا يسمون شهر المحرم شهر الله الأصم لشدة تحريمه.
[لطائف:83].و قال أبو عثمان النهدي: «كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر
الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم».
[لطائف:84]. وقال قتادة: «إن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو
فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السَنة». [فتح القدير:5/429].
صيام المحرم
ومن
فضائل شهر المحرم أنه يُستحب الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم، ففي
الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» [رواه مسلم] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«شهر الله» من باب إضافة التعظيم، وأفضل أيامه اليوم العاشر، فقد صامه
النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ففي الصحيحين وغيرهما عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ:
«مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى [شكراً لله تعالى]،
قَالَ: فَنحن أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، ونحن نصومه تعظيماً له،
فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». ورواه الإمام أحمد بزيادة غير صحيحة:
«وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا».
نحن أحق بموسى منهم
نعم
إخوة الإيمان، نحن أحق بموسى منهم فهذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء
والصالحين، وكل نبي وكل صالح من الأمم السابقة إنما هو تابع لهذه
الأمة.ونحن أحق بكل نبي من قومه الذين كذبوه وعصوه،والأنبياء عليهم السلام
امتداد لتاريخنا و الانتماء إلى الأنبياء ليس انتماء نسب أو بلد، إنما
الانتماء للأنبياء يكون بإتباع هديهم وتعاليمهم.
صيام عاشــوراء يكفر سنـــة
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [رواه مسلم].
فيا
له من فضل عظيم لا يفوِّته إلا محروم، فصيام يوم واحد لا يتجاوز خمس عشرة
ساعة يكفر الله به خطايا عام كامل، وهذا من رحمة الله تعالى بنا ولطفه
.ولكن..صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟ قال أهل العلم: إنه يكفر الذنوب الصغائر
فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح وقبولها، كما أشار إلى ذلك
العلماء المحققون كالنووي وابن تيمية رحمهما الله.
هل يجوز إفراد عاشوراء بالصيام حتى وإن كان يوم جمعة أو سبت؟
يقول أهل العلم: لا مانع من ذلك، وإن كان الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
مخالفــة اليهود والتمـــيز
عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن
بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر يعني عاشوراء» [ رواه مسلم] وفي
صحيح مسلم أيضاً قال صلى الله عليه وسلم :«خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله
أو يومًا بعده».
الرسول صلى الله عليه وسلم يريد لنا الرفعة عن مشابهة
الكفار، ويريد لنا العزة، ويريد لنا التميز، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى
بالذي هو خير؟! نحن أمة مرفوعة، فلم نكون خاضعين؟! نحن أمة متبوعة، فلم
نكون تابعين؟! وديننا يأمرنا بالتميز في سلوكنا ومظاهرنا وفي عباداتنا، وأن
تكون لنا ـ نحن المسلمين ـ الشخصية المتميزة المبنية على الشعور بالعزة
الإيمانية.
صيام عاشوراء مراتب
ذكر بعض الفقهاء أن صيام عاشوراء ثلاث مراتب:
1ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
2ـ صوم التاسع والعاشر.
3ـ صوم العاشر وحده. [زاد المعاد:2/76]. ، وكلما كثر الصيام في محرم كان أفضل وأطيب.
أخي المسلم
تزود من الخيرات واغتنم هذه الأيام لتقدم لنفسك زاداً تجده غداً أمامك ، فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن عليك الليل هل تعيش إلى الفجر
يوم عاشوراء يوم النصر للحق وأهله
في
غمرة الشعور باليأس والإحباط الذي أصاب المسلمين اليوم من جراء تتابع
النكبات والشدائد، يأتي يوم عاشوراء ليُذكِّر الأمة أنه لا تقف أمام قوة
الله أي قوة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد شيئًا
فإنما يقول له: كن فيكون.
شهر الله المحرم شهر نصرٍ وعزٍ لنبي الله
موسى صلى الله عليه وسلم وقومه على فرعون الطاغية المتجبر على رغم كثرة
عددهم وعدتهم وخيلائهم، فإن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم
يفلته، وبإحياء ذكرى ذلك النصر المجيد، على ذلك الطاغية الكبير، نعلن أن
الدعوات لا تهزم بالأذى والحرب والاضطهاد، و عاقبة الظلم وخيمة، والله ناصر
دينه, وكتابه, وأوليائه، و العاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا
بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم، قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ
عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [آل عمران:126] وقال تعالى :
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51،
52].
يوم عاشوراء اليوم الذي قال فيه موسى لقومه لما قالوا له وهم يرون
فرعون وجنوده خلفهم: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61]، قال موسى بلغة
المؤمن الواثق من وعد الله: ( كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)
[الشعراء:62]، إنه فضل وأهمية التوحيد والاستسلام في الملمات وتفويض الأمر
إلى الله وحده، فمهما حمل لنا العدو من دبابات وقاصفات ومدمرات فإن الله
معنا يسمع ويرى ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى : ( فَلاَ
تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا)[مريم: 84].
يوم
عاشوراء اليوم الذي قال فيه فرعون المتجبر المتكبر المتألّه، لما أيقن
بالهلاك: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، فردّ الله عليه هذا
الإيمان الاضطراري وهذه الدعوى الكاذبة فقال عز من قائل: (آلآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ
بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ
النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:91، 92].
يوم عاشوراء حُق
لكل مؤمن أن يعرف قدره ومقداره، وأن يتيقن فيه من سنة الله الكونية في
نُصرة أوليائه الذين ينافحون عن دينه ودحر أعدائه الذين يعارضون شرعه في كل
زمان ومكان.
يوم عاشوراء فيه رسالة أن الباطل مهما انتفخ وانتفش وتجبر
وتغطرس وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه أو يرد كيده وباطله أو يهزم جنده
وجحافله فإن مصيره إلى الهلاك وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون
الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدّعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة
وصفاقة: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، وأن يقول
بملء فيه من غير حياءٍ ولا خجل: ( أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى )
[النازعات:24]، ولكنه حين حل به العذاب لم يُغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده
وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ
وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعات:25، 26.
محـــرم والهجــرة النبوية
العاشر
من محرم يُذَكِّرُنَا بِهِجرَةِ المُصطَفَى صلى الله عليه وسلم مِن
مَكَّةَ إِلى المَدِينَةِ وَبَدءِ ظُهُورِ الدَّعوَةِ الإِسلامِيَّةِ
وَانتِصَارِ الإِسلامِ وَانتِشَارِه. و علينا كمسلمين أن نشكر الله على ما
يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر في معرفة التاريخ اليومي الذي يبدأ
من الهجرة (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة) وأن علينا
جميعاً أن نكون أمةً متميزة بتاريخها و أخلاقها ورأيها ومعاملاتها عن سائر
الأمم الكافرة.
استشهاد سيد شباب أهل الجنة
من
المفارقات العجيبة ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضًا من قتل سيد شباب أهل
الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته،
حيث قُتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهّر الله منها
أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا، إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل الحسين أو
حتى غير الحسين من عامة المسلمين فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة، وكيف
إذا كان من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رضي الله عنه من
سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
عابداً شجاعاً سخياً .
ما ينبغـي التنبـــيه إليــــه
ما
ينبغي التنبيه إليه هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء
والنواح على قتل الحسين رضي الله عنه ،وما يقومون به من تعذيب أنفسهم
وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم
بالسلاسل والسكاكين ولطم خدودهم ونتف شعورهم ليس من الإسلام في شيء، وهو من
البدع المحدثة والمنكرات الظاهرة ومن كبائر الذنوب التي تبرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من مرتكبيها فقال: صلى الله عليه وسلم «ليس منا من ضرب
الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» [متفق عليه]، فكل عمل يدل على
الجزع والتسخط وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم.
تشويه صورة الإسلام وتنفير غير المسلمين
يضاف
إلى هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة وتشويه لصورة
الإسلام وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه، وقد رأينا بعض وسائل الإعلام
العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة
بأن هذا هو الإسلام فمن كان مشتاق إلى الضرب فليدخل في هذا الدين على حد
زعمهم.
مــــن العجائـــــــب
والعجيب
من أمر الرافضة أن أبا الحسين رضي الله عنهما كان أفضل منه، وقُتل يوم
الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، ولا
يتخذون مقتله مأتماً، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه
، وقد قُتل وهو
محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذُبح
من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الفاروق عمر
بن الخطاب رضي الله عنه قُتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ
القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، كما يفعل هؤلاء الجهلة يوم مصرع
الحسين رضي الله عنه
.
اللهم زدنا إيماناً بك وتوكلاً عليك
واستعانةً بك ،اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل
مكان من فراعنة هذا الزمان، يا رحيم يا رحمان.